جميع الكائنات في هذا الوجود، تظهر من نفسها التذلّل والخضوع لله، وبنحو خاص.
وإنّ أعلى مظاهر ذلك الخضوع، والتذلّل لله هو كون العالم بأسره. تحت أمره سبحانه في قبضته، وهو كونها – دون استثناء – مطيعة له تعالى، ومؤتمرة بأوامره، وخاضعة لمشيئته المطلقة.
وبتعبير آخر: إنّ علامة هذا الخضوع الكوني الشامل هو: سيادة الإرادة الواحدة دون مقاومة، أو تمرّد، ودون طغيان أو تردّد.
وبناء على هذا لا يمكن تصور أي نوع من (الإكراه والكراهية) في السجود بهذا المعنى ونعني به: الإطاعة المطلقة للأرادة الإلهية النافذة في مجال التكوين.
إذ (الإكراه) إنّما يتصور عندما يملك الشيء إرادة واختياراً من نفسه، ليتمكن من معاندة المكره ومقاومته، ومخالفة أمره في حين لا يملك أي واحد من هذه الكائنات (وجوده) دون الاستناد إلى الله، فكيف يمكن لها – والحال هذه – أن تخالف مشيئة الله، ويصدق عليها أنّها مكرهة في سجودها أمام العظمة الإلهية، وخضوعها أمام المشيئة الربانية؟
السجود الطوعي والإكراهي
إذا كان معنى السجود هو خضوع الموجود أمام إرادة الله ومشيئته، فلا معنى لتقسيمه إلى الطوعي والإجباري مع أنّا نرى القرآن الكريم يثبت للإنسان ولغيره من ذوي العقول نوعين من السجود إذ يقول: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) (الرعد/ 15).
سجود عن طواعية ورغبة، وسجود عن كراهية وإجبار.
وفي هذه السورة لابدّ أن نختار لهذين النوعين من السجود معنى آخر غير ما سلف فنقول:
إنّ المراد بـ(السجود الطوعي) هو قبول تلك الحالات الملائمة للطبع البشري أو لطبع أي موجود آخر، كالنمو، ودوران الدم، وضربان القلب، بينما يكون المقصود بـ(السجود الإجباري) هو قبول تلك الحالات المنافية للطبع كالموت والبلاء والمحنة التي تقضي على الإنسان أو الحيوان قبل حلول أجله الطبيعي.
والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم استعمل هاتين اللفظتين: (طَوعاً وَكَرْهاً) في مورد سجود السماوات والأرض، ومن الطبيعي أنّ المقصود من ذلك هو ما قلناه كذلك.
فمراد الله من خطابه للسماوات والأرض إذ يقول لهما: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت/ 11)، هو دعوة السماوات والأرض إلى أن تقبل أي نوع من التغيّرات والتبدّلات والحالات سواء أكانت ملائمة لطبعها أم لا؟
وعلى هذا فإنّ قبول الشيء للوجود، وقبوله لأي نوع من التصرُّفات سواء أكانت موافقة لطبعه أم مخالفة له، خضوع وإظهار للتذلّل أمام الله، غاية ما هنالك أنّ قبول هذه الأمور قد يكون كلّه عن رغبة وطواعية باعتبار، وقد يكون قبول بعض هذه الحالات عن كراهية عندما تكون على خلاف طبع الشيء.
على أنّه ليس وجود الموجودات هو وحده في قبضة الله تعالى، بل ظلالها هي الأخرى تابعة لإرادته تعالى في حركاتها، وتحوّلاتها، بكرة وعشياً كما قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) (النحل/ 48).
فهل ترى يجوز للإنسان – وهو يجد جميع الكائنات حتى ظلالها تسبِّح لله وحده.
هل يجوز لهذا الإنسان أن يشرك في سجوده أو يمتنع من الخضوع أمامه تعالى، وله يسجد كل ما عداه؟!
وبعد أن تعرّفنا على معنى سجود الموجودات آن الأوان أن نتحدّث بتفصيل أكثر عن تسبيحها وحمدها لله وتمجيدها له سبحانه.
إذا وقفت على ما تعنيه آيات السجود فلا يمكن أن يستفاد منها علم الموجودات بسجود نفسها، بعد ما كان معنى السجود هو مطلق خضوعها وتذلّلها لدى إرادة بارئها.
نعم يستفاد سريان العلم في جميع الموجودات من آيات التسبيح.
الحمد والتسبيح الكونيان كيف؟
كل الكائنات – في هذا الوجود – تسبح لله، وتحمده، وتمجّده.
هذه كما قلنا – حقيقة نطق بها الكتاب العزيز وأكثر من موضع.
وقد مر عليك أنّ الحمد يعني ثناء الموجودات على الله، لأجل أفعاله الجميلة وكمالاته الاختيارية، وأنّ التسبيح يعني تنزيهه عن كل عيب ونقيصة، وبالتالي وصف الله بالتنزيه عن الصفات السلبية التي لا تليق بشأنه.
وسنذكر كل الآيات الواردة في هذا الباب فيما يأتي
1- ربّما عرض القرآن موضوع تسبيح الموجودات في نطاق واسع، واعتبره أمراً عاماً، وحالة شاملة لكل الكائنات بلا استثناء عندما يقول: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحديد/ 1).
ولفظه (ما) على العكس ممّا يتصوره البعض، تستعمل في العاقل وغيره، والمقصود – هنا – في هذه الآية هو كل موجود وكائن في السماوات والأرض.
وعلى هذا الغرار أيضاً كل ما جاء في المواضع التالية من القرآن: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر/ 1).
على أنّ أشد آية صراحة في هذا الشأن هو قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (الإسراء/ 44).
والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تحمل في ذيلها دليل ما ادّعيناه وهو قوله: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44).
وهي عبارة تكشف عن أنّ التسبيح العام أمر واقع وكائن، ولكن البشر لا يفقه ذلك.
2- وربما تحدّث القرآن عن تسبيح الملائكة بالصراحة تارة، وبالكناية تارة أخرى، إذ يقول: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الشورى/ 5).
وقد ورد الإخبار بتسبيح الملائكة في آيات أخرى غير هذه الآية أيضاً، وهي: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (الأعراف/ 206).